في 17-19 تشرين الثاني/ نوفمبر، اصطحبت ابنتي مريم وصديقتيها حنة مريم وبتول مريم إلى البوسنة لقضاء عطلة منتصف العام الدراسي. وقبل انطلاقنا أوصيتهن عدة مرات بأن يأخذن معهن دفاتر ملاحظات، وأن يدونّ كل ما أقوله، وكل ما يرين، وكل التفاصيل التي تلفت انتباههن. وبالفعل التزمن بنصيحتي، فكتبن صفحات وصفحات من الملاحظات، نقلن فيها كل ما شاهدنه من خلال نوافذهن في دفاتر مذكراتهن.
كنت أرغب في أن تتعرف ابنتي مريم وصديقتاها على البوسنة عن قرب، حيث تعد من أكثر البلدان رقيًا في البلقان من جميع النواحي. فهنا يمكننا أن نروي قصص الدولة العثمانية في البلقان، والآثار التي تركتها لنا عبر الزمن، والآثار العظيمة التي خلفها الزعيم علي عزت بيغوفيتش، والمجازر التي حدثت خلال حرب البوسنة، والتضحيات التي يقدمها المسلمون في سبيل دينهم، وغيرها الكثير مما يطول ذكره.
وصلنا إلى سراييفو بعد ظهر يوم الجمعة تحت زخات المطر الغزيرة، وضعنا أمتعتنا في منزلنا في حي أليفاكوفاتش، ثم بدأنا بالتجول في باسكارسييا. وأثناء ذلك تحدثنا كثيرًا عن الغازي خسرو بك (1480-1541) ـ الذي وضع بصمة الإسلام على سراييفو ـ وعن آثاره التي خلفها وراءه، ولاحظنا في هذه الجولة كيف كانت تبدو "المدينة الإسلامية" من خلال المباني التاريخية. جذبت مباني الفترة النمساوية المجرية في شارع فرحادية انتباه الفتيات، حيث استبدلت المباني اللطيفة بأسقف مبلطة، وتغيرت الهندسة المعمارية فجأة مع انتقالها إلى الجانب الغربي من سراييفو. أعتقد أن التمييز الواضح بين "حي المسلمين" و"حي المسيحيين" قد ترسخ في ذاكرة الفتيات، وسيبقى في أذهانهنّ إلى الأبد.
كانت مدينة موستار واحدة من أكثر المحطات إثارة في رحلتنا. وبعد أداء صلاة الظهر والعصر في مسجد "كاراجوز بيك" الذي بناه كاراجوز محمد بك، شقيق الصدر الأعظم رستم باشا في عام 1558، نزلنا إلى ضفاف نهر نيريتفا الذي ارتفع منسوب مياهه بسبب الأمطار. وبينما كنا نتفيأ ظلال جسر موستار المهيب، عرضتُ على الفتيات لقطات من فيديو هدم الجسر بنيران المدفعية من قبل القوات الكرواتية في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 1993. فسألت الفتيات ببراءة: "لكن لماذا فعلوا ذلك؟ فأجبت: لأنهم أعداء لكل شيء يذكرهم بنا، ولا تزال عداوتهم هذه مستمرة حتى اليوم.
وعندما عدنا إلى سراييفو في المساء كانت تنتظرنا مفاجأة أمام سبيلج (ماء السبيل)، حيث كان هناك عدد كبير من الناس من مختلف الجنسيات، يحملون أعلام فلسطين، وينددون بالإبادة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة. ركضت الفتيات على الفور للانضمام إلى المظاهرة، وحملن أحد الأعلام الكبيرة، وشاركن في الهتافات.
كانت قضية غزة حاضرة بقوة في البوسنة، ففي كل مكان زرناه، وفي كل متجر دخلناه تقريبًا، كانت أعلام فلسطين تستقبلنا. وهذا أمر طبيعي، لأن البوسنيين من أكثر الشعوب التي تدرك معنى الإبادة الجماعية. لذلك كانت التحيات المرسلة من البوسنة إلى غزة حقيقية وصادقة.
وفي ختام رحلتنا، صعدنا إلى مقبرة "حمبينا كارينا" التي تطل على سراييفو، وقمنا بزيارة قبر محمد الخانجي البوسنوي (1906-1944). كان الخانجي أستاذ علي عزت بيغوفيتش، حيث نشأ الأخير على يديه. ولكن الخانجي قُتل وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، على يد إرهابيين معادين للإسلام متنكرين بزي الأطباء، أثناء إجراء عملية جراحية له، وكان ذلك أثناء نضاله من أجل بقاء البوسنة أرضًا إسلامية. كانت قصته حزينة للغاية، وتركت فينا أثراً عميقاً.
وعند انتهاء رحلتنا، التي رافقنا فيها أخي إسماعيل فرقان يوردكال المقيم في سراييفو بسبب عمله، سألت الفتيات: "كيف وجدتن البوسنة؟" فأجبن كما كنت أتوقع: "بدت لنا مألوفة، وشعرنا أنها قريبة إلى قلوبنا، ومليئة بالدفء والراحة".