لم يُعرف وائل الدحدوح للعالم بفضل مسيرته الصحفية فقط، بل عَرفه العالم أيضاً من خلال صموده في وجه العدوان الإسرائيلي على غزة، وما أظهره من ثبات ورباطة جأش في مواجهة فقدانه لعائلته وأحبائه خلال هذا العدوان. فقد استشهدت زوجته، وابنته، وولداه، وعدد كبير من أقاربه، لكنه لم ينكسر، ولم يفقد عزيمته على المقاومة. بل قام بأداء صلاة الجنازة على أفراد عائلته بنفسه، وبعد إصابته في يده اليمنى خلال أحد الهجمات الإسرائيلية، تم نقله إلى قطر لإجراء عملية جراحية. وهناك أجرت قناة الجزيرة مقابلة معه استغرقت ساعة وأربعين دقيقة، تحدث فيها عن تجربته المؤلمة. وحرصاً على إيصال صوته إلى الجمهور التركي، أود أن أشارككم بعض العبارات التي ركز عليها الدحدوح في مقابلته:
ما يجري في غزة خارج الحسابات، وخارج احتمالات وتخيل البشر ربما، هذه الحرب ليست كمثيلاتها ولا كسابقاتها. هذه الحرب جسدت الصفات الحقيقية للجيش الإسرائيلي، كانت هناك وحشية لا سابق لها ولا حدود لها.
مع الأسف كنا أحياناً نسير على بعض الأشلاء، لا يوجد كهرباء، ويوجد سيارات إطفاء وقد قامت ببعض الأعمال لإطفاء بعض الحرائق وما شابه ذلك، لكن مع الأسف وأنت تمشي تكون بعض الأشلاء تحت الأقدام. تسعون بالمئة من المشاهد ـ وإن لم يكن أكثر ـ لا يُسمح بتصويرها.
تلقيت خبر استشهاد زوجتي أثناء بث مباشر على الهواء. كنت أتحدث عن القصف العنيف الذي تعرضت له المنطقة التي تقطنها زوجتي وباقي عائلتي دون أن أعلم أنني أعلن عن مصير عائلتي للعالم. رن هاتفي أثناء البث، فسارع أحد أصدقائي الموجودين معي إلى أخذه من جيب قميصي والإجابة عليه. في تلك اللحظة، أدركت أن شيئا استثنائيا قد حدث. وبعد أن علمت بالخبر، سارعنا إلى التوجه إلى المنطقة بسيارة. كان المبنى قد دمر تماما.
أذكر أنه عندما بدأت الحرب، ارتديت الملابس وذهبت باتجاه المكتب وقلت لهم، وطنوا أنفسكم إلى ثلاثة أشهر أو أربعة شهر، وخرجت ولم أعد، ولم أرهم إلا وهم شهداء.
دمرت الطائرات الإسرائيلية منزلي في مدينة غزة بشكل متعمد ومباشر. واتصلوا بالناجين من أطفالي وهددوهم. كل ذلك كان بهدف إجباري على ترك العمل الصحفي والتوقف عن نقل الأحداث.
ولكنني مع كل خسارة، ازداد تمسكي بعملي. لأكون صريحا، كنت أعتقد أنني عشت لفترة أطول مما ينبغي، كانوا يستهدفون جميع أقاربي الواحد تلو الآخر، لكن كنت أنا المستهدف بشكل رئيسي.
إن العمل كصحفي ومراسل في غزة هو من أصعب الأعمال في العالم. فأنت لا تعاني فقط من المشقات التي يعاني منها باقي الناس، بل تقع على عاتقك أيضا مسؤولية نقل الأحداث إلى العالم. وتشمل التحديات التي نواجهها: توظيف وتدريب الطواقم التقنية، وحماية الأجهزة أثناء الهجمات، والتنقل المستمر عند استهداف مكاتبنا، واتخاذ الاحتياطات اللازمة لمواجهة انقطاع التيار الكهربائي، وفقدان زملاء العمل… إلخ، كل ذلك يحمل الإنسان أعباء لا تطاق.
الأحداث العظيمة تصنع صحفيين عظماء، في غزة تلقينا مساعدة كبيرة من الشباب في شوارع غزة، حيث ساعدونا على أداء عملنا كأنهم صحفيون محترفون. مما سهل عملنا في الميدان.
لم يتوقع أحد نتائج أحداث 7 أكتوبر، ولم يتوقع أحد أيضا الوحشية التي أظهرتها إسرائيل بعد ذلك. حتى الذين نفذوا عملية "طوفان الأقصى" لم يتوقعوا أن يتمكنوا من تنفيذ عملية ناجحة ضد إسرائيل إلى هذا الحد. وقد عاش الصحابة أيضا مواقف مشابهة، فكانوا أحيانا يخططون لشيء ما، بينما كان الله يقدر شيئا آخر.
قبل السابع من أكتوبر، كانت هناك قناعة عالمية بأن إسرائيل لا تُمس وأن جيشها قوي لا يقهر. ولكن اتضح جلياً أن كل ذلك كان مجرد أوهام. وأن هذا الجيش يمكن هزيمته، لقد بدأت اعتراضات قوية على مزاعم إسرائيل في جميع أنحاء العالم. وتحرر الناس من الأفكار المسبقة التي كانت تقيد تفكيرهم. واهتزت صورة إسرائيل بشكل كبير. وهذا مكسب هام على الرغم من كل صعوبات الحرب.
وبدأ وعي كبير ينتشر في جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي خاصة بين الشباب. حتى الأطفال أصبحوا يبحثون في تطبيقات على هواتفهم عن المنتجات المقاطعة التي تدعم إسرائيل، قبل شراء أي شيء ويتحققون من مصدر المنتجات بعناية. وعادت قضية فلسطين والقدس والمسجد الأقصى إلى صدارة اهتماماتهم. وهذا يذكرني بما حدث في عصر الانتفاضة الأولى عام 1987.