إن اتفاق تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل يمثل نقطة تحول مهمة في مسار الحرب. فقد تراجعت إسرائيل عن موقفها الرافض لوقف العمليات العسكرية قبل إطلاق سراح جميع الأسرى. ولكن من الواضح أن هجمات الاحتلال ستستمر بعد بضعة أيام من التوقف، ومن المتوقع أن يكون الصراع طويل الأمد، وأن يشتد من حين لآخر، حيث سيستغرق إطلاق سراح جميع الأسرى أشهرًا أو ربما سنوات. ولكن من ناحية أخرى، فقد أصبحت القضية الفلسطينية في صميم اهتمامات العالم العربي، بعد أحداث السابع من أكتوبر وما تلاها. لذلك بالرغم من أن الحرب في غزة ستستمر صعوداً وهبوطاً في المرحلة المقبلة إلا أن أنها ستؤدي إلى زيادة الجهود الدبلوماسية للتوصل إلى حل نهائي للقضية الفلسطينية.
خلق حالة حرب دائمة في غزة
يدرك الجميع أن إسرائيل لن تتراجع عن عدوانها على غزة حتى تدمر البنية التحتية والقدرات العسكرية لحماس إلى حد كبير، ولن تتورع عن ارتكاب جرائم حرب في سبيل ذلك. ولكن إسرائيل ـ التي تتمتع بدعم قوي من الولايات المتحدة والغرب ـ لا تستطيع تجاهل الضغط الشعبي الدولي طويلاً. ولذلك ستحاول تبرير جرائمها والادعاء بأنها بذلت جهودًا لحماية المدنيين وسمحت بمرور المساعدات الإنسانية وعلقت عملياتها العسكرية لتبادل الأسرى بهدف نسيان الجرائم التي ارتكبتها في الحرب. وفي الوقت الذي تسعى فيه إسرائيل لتخفيف حدة رد فعل المجتمع الدولي ستستمر في عدوانها العسكري على غزة لمنع حماس من التعافي وشن هجمات جديدة. ومن المرجح أن تخلق إسرائيل حالة حرب دائمة في غزة في الفترة المقبلة، لأنها تدرك أنه من المستحيل القضاء على حماس.
ومن المؤكد أن إسرائيل ستستمر في عملياتها ضد حماس، لكنها ستواجه مشكلة في تحديد من سيحكم غزة بعد ذلك. فلن ترغب السلطة الفلسطينية في إدارة المدن التي دمرتها إسرائيل، وما صرحت به حكومة نتنياهو من عزمها تولي المسؤولية الأمنية الشاملة لفترة غير محددة على قطاع غزة، فكانت تشير به إلى أنها لن تسمح لحماس بالعودة إلى السلطة، لكنها تضع على جدول أعمالها أيضاً احتلال غزة وإعادة سيطرتها على المنطقة. وإن حدث وقامت إسرائيل باحتلال غزة فإنها ستواجه خيارين: إما أن تتحمل مسؤولية إدارة غزة، وبالتالي مسؤولية الأزمات الإنسانية التي تسبب بها، أو أن تفضل تشكيل إدارة صورية تابعة له. ولكن، في ظل المعارضة الدولية لاحتلال غزة، يبدو أن إسرائيل ستفضل الخيار الثاني، وهو تشكيل إدارة صورية. فهذا الخيار سيسمح لها بمواصلة عملياتها العسكرية دون تحمل أي مسؤولية.
إيران وموقعها الاستراتيجي
أظهرت حرب الاحتلال الإسرائيلي على غزة أن قضية فلسطين لا يمكن تجاهلها، وأن حلها شرط ضروري لإمكانية التطبيع في المنطقة. ولذلك بات من الضروري إنشاء نظام جديد في الشرق الأوسط.
قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر توصلت الولايات المتحدة وإيران إلى تسوية غير رسمية بشأن الملف النووي، وفي هذا الإطار كانت طهران تتجنب اتخاذ خطوات استفزازية في تخصيب اليورانيوم. كما اتخذت واشنطن خطوة لخفض التوتر مع إيران من خلال الإفراج عن 6 مليارات دولار من أموال إيران، في إطار اتفاق تبادل الأسرى. وقد أظهرت إيران ـ التي دخلت أيضًا في عملية تطبيع مع السعودية ـ بعد هجوم حماس على إسرائيل، أنها تتمتع بموقع أكثر ميزة في المنطقة مما كان يبدو عليه. فإيران تمتلك قوة هائلة ضد إسرائيل من خلال حزب الله في لبنان ، وكذلك ضد الولايات المتحدة من خلال الميليشيات الشيعية في العراق وسوريا، ولا تتورع عن استخدام هذه القوة كعنصر ردع. كما أنها تحافظ على مسافة من الدخول في حرب شاملة ضد إسرائيل والولايات المتحدة. ونتيجة لما سبق أصبحت إيران تتمتع بموقع استراتيجي أقوى في الشرق الوسط.
أولويات السعودية
أما بالنسبة للسعودية، فقد كانت قبل 7 أكتوبر تطالب بعقد اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة وحصولها على تكنولوجيا نووية مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل. لكن اندلاع حرب غزة جعل التطبيع مع إسرائيل مستحيلًا في المدى القريب، مما أجبر السعودية على جعل حل قضية فلسطين على رأس أولوياتها. ولهذا الغرض جمعت السعودية زعماء العالم الإسلامي في قمة إسلامية عربية طارئة في الرياض. كما أنها تعمل على تطبيع العلاقات مع إيران، لتحييد أقرب تهديد محتمل في المنطقة، وإلى جانب ذلك، تسعى السعودية إلى التفاوض مع الولايات المتحدة على حزمة شاملة تضمن لها الأمن. ولا تتردد السعودية في التعامل مع الصين أيضًا، حيث تحاول استغلال جهود الولايات المتحدة لتقليص نفوذ الصين لصالحها.
لقد أضعفت الولايات المتحدة موقفها في المفاوضات مع السعودية من خلال دعمها الغير مشروط لإسرائيل، حيث أصبح حل القضية الفلسطينية ـ وهو أحد شروط التطبيع بين الرياض وإسرائيل ـ أمرًا يتطلب حلاً نهائيًا الآن .
يشهد الشرق الأوسط تحولات كبيرة حيث ستستمر الحرب في غزة بطريقة ما، وسيُدار الصراع بين إيران والولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة بطريقة مضبوطة، وسيتعين على السعودية أن تقود عملية السلام بين إسرائيل وفلسطين.
أظهرت الحقائق الاستراتيجية التي ظهرت في المنطقة بعد 7 أكتوبر أن إنشاء نظام مستقر في الشرق الأوسط لن يكون ممكنًا دون حل قضية فلسطين وإسرائيل.
لقد ولت الحقبة التي كانت فيها دول المنطقة تركز على مصالحها وتسعى لتطبيع العلاقات مع إسرائيل بناءً على توصيات واشنطن، التي كانت تحاول نسيان قضية فلسطين بطريقة ما.
تبرز قضية فلسطين كأكبر عقبة أمام رغبة السعودية في ضمان أمنها والتركيز على التنمية الاقتصادية. ومن الواضح أن عمليات حل النزاع والتصعيد التي تعزز من موقف إيران لا تخدم مصالح دول مثل السعودية وتركيا.
لذلك فإن حل القضية الفلسطينية هو شرط أساسي لإقامة نظام جديد في الشرق الأوسط.